من أنا

صورتي
صلاله, Oman
إقرأ .. أجمل ماتقرأ.. أكتب.. وأجمل ماتكتب.. أحفظ .. وأجمل ماتحفظ .. حدث به الآخرين.

الأربعاء، 17 مارس 2021

شئٌ من ذاكرته ..

سور البيت والطفولة ..

مرت عليه مرحلة الطفولة بسرعة وبدون أحداث كبيرة سوى موت جدته – أم أبوه. ويتذكر النساء اللواتي لبسن العباءة البيضاء والتي كانت رمز الحزن في تلك الفترة. لا يتذكر من اللعب في طفولته سوى سور بيتهم المطل مباشرة على شاطئ البحر. كان يتسلق السور ويقفز في الرمال ويكرر، وفي كل مرة كان يبتسم ويكلّم نفسه بأحلام المستقبل، حتى يشعر بالتعب ويتوقف وبهذا يكون أنهى لعبه.

 

صالة التزلج

كانت صالة بيتهم مفتوحة على الجهة البحرية، وكانت بطول تقريباً 15 متر وعرض 3 أمتار. كانت تُكسَى سنوياً بطربال، يختلف لونه ونقشته من سنةٍ لأخرى. المهم تلك الصالة تتحول في الشهرين الذين يسبقان فصل الخريف إلى صالة تزلّج، بسبب الرطوبة الشديدة في تلك الفترة. فالتزلج هي رياضة الأطفال، فيمارسوها برغبتهم، بينما الكبار فغالباً تكون رياضة إجبارية أو بالأصح تزحلق بدلاً من تزلج!.

 

 

أول عمل يدوي

كبرَ الطفل وأصبحَ صبّي يتعلم في المدرسة، وأثناء تشّييد بناء بيتهم بالطراز الحديث، إهتمَ وحبَّ الصبي التعليم لدرجة أن أول عمل يدوي قام به هو سبورة، صنعها من بقايا الأخشاب والمسامير أثناء التشييد. ما زال يتذكر تلك السبورة التي علّم نفسه وعلّم أطفال الجيران كل ما استعصى عليهم من دروس في اللغة العربية والعلوم والرياضيات. هل كان ميوله ورغبته أن يكون معلماً؟ لا أحد يعرف، حتى هو نفسه!.

 

شاي أمه وخبزها

قد ينسى الصبي أمور كثيرة وأحداث كبيرة في صباه، لكن شاي أمه، فلا. لم يكون مجرد شاي، بل كان غذاء متكامل بالنسبة له. كان الوقود الذي سوف يستهلكه في المدرسة. كانت تبرّده له حتى لا يلسع لسانه. كانت تستخدم كوبين وتصب الشاي من كوب لآخر وتقول له: تعال إشرب الشاي الحين صار دافئ. كانت أمه نشيطة وسعيدة بما تقوم به. كانت عيناها توحي بالفخر بهذا الصبي الذي تخدمه في كل الأوقات. وكان الصبي يعرف أن أمه مريضة فقط عندما تربط على رأسها!.

أمه تعشقه، لدرجة أن بقية إخوته يلاحظوا ذلك. وتبحث عن كل ما يسعده وتعامله على أنه طفلها المدلل رغم تعديه الخمسين ربيعاً!!. يحب خبزها وعرفت ذلك. صارت كل أسبوع تعجن وتخبز له خبزتين. في أحد الأيام، لم يزرها في ذلك اليوم الأسبوعي، أرسلت أباه وقالت له: خذ هاتين الخبزتين وأعطيه له، مسكين ما عنده خبز هذا الأسبوع!! وطرق الأب باب بيت الابن وقال: هذه من عند أمك!! وكما قال محمود درويش في خبز أمه شعراً، كذلك ذلك الشاب يعشق أمه وخبزها.

 

تدريس الأطفال والشيّاب ..

وعندما كبر وصار عمره تقريباً ستة عشر عاماً، إهتمَ بالمحافظة على الصلاة في مسجد الحارة وأيضاً قراءة بعض الكتب المتواجدة في رفوف المسجد مثل كتاب رياض الصالحين وكتب الترغيب والترهيب وغيرها. وبدأت رغبة تدريس الآخرين في ذلك العمر وأخذ يجمع أطفال الحارة ويجلسهم في حلقة ويبدأوا قراءة القرآن. وكذلك إهتمَ بتعليم الشيّاب قراءة سورتي الفاتحة والإخلاص والمعوذتين والصلاة الإبراهيمية. كان فخوراً جداً بما يقوم به لهؤلاء الأطفال والشيّاب – رحمهم الله جميعاً.  

 

تنظيف المسجد

لم يكتفي بتعليم الآخرين في ذلك المسجد الصغير بل حرص على تنظيفه صباح كل يوم جمعة. اِختارَ ذلك التوقيت لأنه كانت إجازة نهاية الأسبوع يوم واحد وهو يوم الجمعة وبحيث لا أحد يعرف ما يقوم به ظناً منه احتساب الأجر من الله. يتجه في ذلك الصباح ويستخدم المكنسة الكهربائية المتوفرة في المسجد في التنظيف. أحبَّ الصبي المسجد لدرجة أنه يقضي فيه وقت أطول من غيره ممن هم في عمره من الصبية.

حياة الجامعة

طلعت نتائج الثانوية في الجرائد والراديو. في يوم النتائج تتحول الحارة إلى عُرس. الجميع يفرح للناجحين ويقدموا لهم التهاني والتبريكات بقلوب صافية. يستعد الطلبة المقبولين للسفر والإلتحاق بالجامعة. تعرّفَ الشاب – صار عمره تسعة عشر- على أصدقاء جدد من منطقته ومن كافة أنحاء بلاده. يقول الشاب إنها كانت فترة ذهبية من حيث الصداقة بشباب يعتبروا نخبة البلاد. ويفتخر بأنه ما زالت تلك الصداقات حية إلى يومنا هذا.  

 

الوظيفة التي لم يتقدم لها

انتهت دراسته الجامعية بنجاح ويسر. بعد أن أخذ إفادة تخرجه وتنفّسَ الصعداء، أخلدَ إلى راحةٍ وقررَ أن يظّل كذلك لعدة شهور. وأثناء فترة الراحة، رنَّ تلفون بيتهم – تلك كانت الفترة الذهبية لهاتف البيت الأرضي – آلو، أنت فلان؟، أجاب: نعم. هل قدمت أوراقك في أي جهة للتوظيف؟ أجاب: لا. قال له ذلك الرجل الذي لا يمكن أن ينساه وينسى فضائله: هل بالإمكان أن تأتي إلى مكتبي ومعك أوراق التخرج؟! قال له: أكيد، ولم تستغرق إجراءات توظيفه أكثر من شهر. كان ذلك الشاب العماني الوحيد من بين الموظفين في فئة عمله. يقول الشاب عن ذلك المسؤول أنه بعيد النظر ولديه من الحكمةِ ما تؤهله ليكون مسؤولاً قيادياً من المستوى الرفيع. قال المسؤول للشاب: أتمنى أشوف الدشداشة العمانية في كل الوظائف. ولم يتقاعد ذلك المسؤول حتى تحققت أمنيته!.   

الزواج والسيارة

أقبل الشاب على الزواج. مجرد أن فكّرَ في الزواج، بدأت أموره تتسهل. فكر أن يشتري سيارة جديدة من الوكالة. ذهب إلى أحدى وكالات السيارات في منطقته وعاينَ السيارات وقرر أنه سوف يشتري سيارة من عندهم لكن في شهر رمضان لأن لديهم سحوبات يومية على سيارات – أي كل يوم سحب على سيارة. وكان باقي تقريباً عشرة أيام على شهر رمضان المبارك. قال له أحد موظفي الوكالة: اشتري السيارة اليوم وسوف نعطيك كوبون وكأنك اشتريتها في رمضان!! كان هدفه أن يكسبه ويغريه للشراء. وفعلاً، اشترى السيارة وثامن يوم في رمضان، تلقى عدة اتصالات من الوكالة. لم يرّدْ عليها وفضّلَ أن يتجه مباشرة إلى الوكالة. وجدهم منتظرين مبتسمين على باب الوكالة الرئيسي وقدَموا له التهنئة بالفوز بسيارة!!.

 

اِسمها بالجبس

كانت زوجته وجه خير عليه وما زالت. في أحد الأيام وهي عند بيت أهلها لعدة أيام، استغلها فرصة بأن طلب من عمال الجبس أن يصنعوا قوالب على شكل حروف اسم زوجته الرباعي مع إضافة إنارة عليها على أن تُلصق تلك الحروف في سقف غرفتهما! وفعلاً، أنجزت تلك الفكرة بنجاح وعند وصول زوجته إلى البيت ورأت ما قام به من أجلها، فرحت فرحاً شديداً وأعتبرتها عربون محبة أبدية. وكما قال له أحد أصدقاءه: يعني مؤبد؟!. قال له: نعم، مؤبد!!.

الشايب والدعاء

عندما يشاهد أي رجل مسّن على جانب الشارع، دائماً يقف ويقوم بتوصيله. في أحد الأيام، لاحظَ من بعيد شايب طاعن في السن فوقف له. بدأ الشايب بالصعود إلى السيارة ومن أول لحظة والشايب يدعو له: الله يطّول في عمرك ياولدي. الله يطّول في عمرك ياولدي. وفجأة، قاطعه الشاب وقال له: لو سمحت يا عمي، ممكن تقول الله يبارك في عمرك؟ بدل من طولة العمر؟ لان طولة العمر من غير بركة لا أريدها!!.

 

حكمة أبيه

يمتاز أباه بالإبتسامة الدائمة والصمت الحكيم وإذا نطق في مجال عمله، كأنه بروفيسور وفي مجال الدين، كأنه خطيب. في أحد الايام وهو يجّهز أدواته لدخول مسابقة في مجال عمله، جمعَ ابناءه وقال لهم: أنا سوف أحصل على المركز الأول بإذن الله. قالوا له: كيف؟! قال: لأن لدي طريقة جديدة ليست موجودة عند المتسابقين الآخرين وأيضاً أنا مستعد. وبعدها قال الذي يريد أن يوصله لابنائه: لكي تنجح، ذاكر. وسكت!. وحصل على المركز الأول!.

 

كرم أمه

عادةً، يُضرب المثل في الكرم بحاتم الطائي ويقال "أكرم من حاتم!" وأنا أضيف مثل آخر وهو "أكرم من أمه!". يمكن لأنها قنوعة وبسيطة وتحب الخير للآخرين. ضيفها لا يخرج صفر اليدين، إما بخور أو عطر أو مبلغ من المال وتقول له: هذه للعيال!. وعندها أمر آخر مقدس وهو الجار قبل الدار!. الجميع يحبها، ورغم أنها أصغر أخواتها وأخوانها إلا أن والداها عاشا معاها حتى آخر أيامهما.

في أحد الأيام، عندما دخل عليها ابنها الكبير، كانت أمه جالسه بالقرب من النافذة. وبدأت السوالف بينهما وهي توزّع نظراتها بين ابنها وبين النافذة. سألها الابن: لماذا تنظرين في النافذة؟ قالت: انتظر عامل النظافة وخايفة يمر من غير ما أعطيه نص ريال! وأحياناً تضع للعامل كوب شاي وخبز خارج باب المطبخ. تخيلوا معي بعد هذه المعاملة كيف سوف تكون النظافة أمام بيتهم!!.

 

اِختارَ التقاعد

تقاعدَ بعد 26 سنة قضاها بين تلميذ على يد أحد الخبراء ومدير على موظفين تعامل معهم على أنهم إخوانه الصغار. حاول أن يطورهم ويسعدهم ويشعرهم بأهميتهم من خلال توفير النصح في مجالات العمل والحياة الإجتماعية وتطوير ذواتهم. حاول، ولا يعرف مدى نجاحه في ذلك. حاول أيضاً تطوير ذاته بأن اِهتم بالتعلم الذاتي في مجالات التقنية وادخالها في تحسين الأداء العملي. بعد تلك المدة، اِختارَ أن يتقاعد، خاصةً بعدما شعرَ أن دوره انتهى وأن المسؤولين الجدد لديهم القدرة على إدارة العمل باقتدار. عندما عبّرَ بعض الموظفين عن مشاعرهم بعدما سمعوا عن تقاعده، شعرَ أنه ترك في نفوسهم أثر وحمد الله على ذلك.    

 

وبعد موته

كبر ذلك الطفل والصبي والشاب والرجل وحاول أن لا يكون زائداً على الدنيا. مات بعد مراحل مختلفة من الحياة حاول أن يعطي قدر المستطاع لأهله وأصدقائه وكل الناس. مات ولا يعرف هل أعطى ما فيه الكفاية أم أنه قصّرَ في حق أمه وأبيه وأخوانه وزوجته وأولاده والناس أجمعين. لكن المعروف عنه أنه كان يدعو للناس كافة، من أبينا آدم إلى يوم القيامة، بالخير. مات وإنا لله وإنا له راجعون وقالوا عنه أنه كان رجل طيب.